كانت الساعة العاشرة ليلا لما كنا نستريح على مقاعد حافلة الوسام الذهبي ... كانت الساعة الثانية عشرة وخمس وأربعين دقيقة لما انطلقت بنا الحافلة في رحلة الأيام ، كم نكون مسرورين عندمانكون مجتمعين، كم تبدو الفرحة والسعادة على وجوهنا عندما تأخذنا الحياة من مكان إلى مكان ومن وسط إلى آخر، فيحضر معنا الحب آنذاك ليوحد قلوبنا ويرسم بهجة كبيرة على محيانا، فنعرف الحرية في أسمى معانيها، وتمر الساعة بأقصى سرعتها، نغضب وفي الغضب سحر جذاب، نتيه وفي التيه جمال ساحر ، نتأخر وفي التأخر حكمة بالغة، ينقصنا أصدقاء فتأخدنا غفوة من النوم لتقلص زمن متعتنا .
بعد آذان الفجر وبزوغ الشمس يصارع دجى الليل كان شارع محمد الخامس بالرباط على موعد مع أقدام لم تطأه منذ 365 يوم. كالعادة أمين المال يقوم بحجز تذاكر العنكبوت الآلي، فأخدناموقعنا في الطابق الثاني من هذا العنكبوت، وعلى خيوطه اهتز بنا والنوم يداعب أجفان البعض، والغضب ظاهر على وجه البعض الآخر، فيما الثلث المتبقي يصارع الجوع بحلويات بسيطة، تطلعت من نافذة هذا الحيوان لتبصر عيني زخات مطرية خفيفة وضباب كثيف بين الفينة والأخرى يترك لي بصيصا لأرى حقولا خضراء أحيانا، ودخان المصانع أحيانا أخرى، وبناية هشة في أغلب الأحيان، فأغمضت عيني إلى أن سمعت صراخ هذا الشبح يتراجع وزفيره يقل، وصوت عذب يصيح " محطة الدار البيضاء الميناء" .
بعينين شبه نائمتين، ووجوه شاحبة تخفي السرور، غادرنا القطار، وبخروجنا من مراحيض المحطة بدأ النقاش والشغب والنكتة... فقسمتنا سيارة الأجرة إلى ثلاثة.
تكرر سيناريو السنة الماضية في وجبة الفطور حتى "فوزية" التي صادفناها في تلك الزاوية الضيقة من المقهى، في نفس المكان وربما بنفس اللباس كانت قاعدة تنتظردخولنا لتخرج كما فعلت السنة الماضية .
خمس دراهم هي ثمن تذكرة المرور إلى حقل الكتاب الواسع.. انتشرنا في أرجاء هذا الحقل، لنقتطف منه بعض أنواع الزهور والنباتات التي يحتويها، العزيز مصطفى منبهر بورود كلومبيا، والصديقة فاطمة الزهرة اجتذبتها ألوان البرمجة اللغوية العصبية، صاحبة النكتة بشرى تبحث عن الأهرام المصرية التي تحتوي على أعشاب ستفك إطاراها النظري في فصل الربيع، صاحب "الهوندا" الصغيرة منير يأخذ من هنا ومن هناك، أما صاحبة الحركة التلقائية فوزية فكانت تبحث في حقول فرنسا وألمانيا عن نباتات ما بعد الحداثة، يرافقها ضيف الرحلة زكرياء الذي يريد أن يستمتع أكثر من الزمن المحدد للرحلة، ومن مزرعة أمريكا اللاتينية أخد النبتة التي ثارث في كوبا، أما الزميلة مريم كانت حريصة على التنوع فتكونت باقة وردها من أطفال وشباب وشيوخ.. أمين المال عبدربه كانت يبحث عن الأشواك الناعمة الأقل ثمنا، ومن منتزه الكويت روى عطشه هذا.
بالصدفة التقينا شخصا اردناه أن يكون بيننا "محمد" الذي أمام قصب وزارة الثقافة وأشجار زيتون الجالية المغربية أخد صورا تذكارية بالحقل.
وعلى إيقاع هذه الألوان امتلأ الفضاء بأهازيج الفرح الفكري، وبينما يزداد الزوار من كل حدب وصوب انشق الطريق أمامنا الى قليل من البيتزا وكثير من الخبز، لتاخدنا بعدها الى بناية تشبه القصر يقال اننا سنقضى الليلة فيها، وعند مدخلنا تمنى كل واحد منا لو كنا قصدنا كوخا صغيرا استقبلنا صاحبه بابتسامة عريضة، لكن اطمئن قلبنا عندما استرحنا وقضينا الصلوات المتبقية علينا، وبعد صمت مزعج امتطينا حافلة عفوا ناقلة نحو مركز المدينة التى لا تتكلم بلغة الطبيعة، فاعتمدنا الاشارة والعلاما ت والرموز وسيلة للتواصل، فضاعت عذوبة كلماتنا وتبخترت ابتساماتنا واخترقنا الشوارع والأزقة مشيا على الأقدام قاصدين مسجد الحسن الثانى ، وعلى قوة الكلمة وعدوبتها وراء القزابري انتظرنا بعض الرفقاء وكانت الوجهة البحث عن وقود بطوننا، وقصة البحث هذه لها حديث آخر ينتهي بطلقة رصاصة عفوا صرخة من فوزية: كفى.. كفى.. أقدامنا تعبت من المشي ولن نستطيع زيادة خطوة واحدة.. فأطلق الجميع ابتسامة تحمل من الشفقة الشيء الكثير.
الشوارما هي وجبة العشاء وسيارات الأجرة هي وسيلة إتلافنا في عين السبع والتعب هو السبيل إلى نوم عميق ولو لفترة قصيرة.
أمتعتنا في النقل المدرسي هاجرت بها الحياة إلى حيث نلتقي، وفترة الصباح عرفت العودة إلى حقل الكتاب، وبعد الظهر كان القطار يزفر ويلتهب خيوطه في اتجاه الرباط، ومن دفئ السماء وصفاء الجو وبهجة الطبيعة ونكتة الأصدقاء وسرعة الزمن، عادت لغتنا المفقودة في مدينة الهرج والمرج، أو مدينة اللانظام كما عشقها منير، وابتساماتنا التي تبخرت تساقطت علينا مطرا في نهر أبي رقراق ونحن على متن قارب لا يغلبه عكس التيار، وبضريح صومعة حسان عادت بنا الذكرة إلى الوراء وإلى المستقبل المحتوم في نفس الوقت، وبالوداية منعتنا ظلمة الليل من الدخول وبباب الحد فاض الضحك مثل النافورة التي تلعب بالماء أمامنا، ودقائق بعد أخذتنا إلى محطة القامرة، تناولنا وجبة العشاء لنجد أنفسنا فجأة نرتعش بردا في المحطة الطرقية بتطوان في غياب مصطفى، فأخذ كل واحد منا طريقه لأقطع وحدي عشر دقائق من الوقت تحت المطر الغزير وأدخل في نوم ماراطوني.
الساعة الثانية عشر والنصف ليلا وشعور جميل ينتابني وأنا أسطر هاته الكلمات لأجد أصدقاء السوسيولوجيا هم الأصدقاء الأكثر جمالا وسحرا ووفاءا، فالحياة معهم روضة خضراء، وهضبة تطل على نهر الجمال، والمستقبل معهم يبشر بابتسامة دائمة، فلجمعية أصدقاء السوسيولوجيا تحية ود وإخلاص، ولأساتدتنا زهرة حمراء ملؤها الحب والسلام، ولوالدينا....